عقوبة الجلد.. مشاهد تنفيذ الأحكام تبث الخوف وتعمق مأساة النساء في أفغانستان
عقوبة الجلد.. مشاهد تنفيذ الأحكام تبث الخوف وتعمق مأساة النساء في أفغانستان
حين عادت حركة طالبان إلى السلطة في أغسطس 2021 عادت معها واحدة من أكثر العقوبات قسوة في المشهد الأفغاني وهي عقوبة الجلد العلني، لم تمر أشهر قليلة حتى تحولت الساحات العامة والملاعب الرياضية والمساجد إلى مسارح مفتوحة لتنفيذ هذه العقوبة القاسية وسط حشود يجري جمعها قسرا أو استدعاؤها لإرسال رسالة واضحة مفادها أن النظام الجديد يحكم بالقوة ويزرع الخوف في النفوس.
واقع يومي من الترهيب
في مدن كثيرة تمتد من فارياب وبادغيس إلى تخار وهرات وكابول وغيرها، بات مشهد جلد الرجال والنساء في وضح النهار جزءا من الحياة اليومية، يتجمع السكان أمام منصات بدائية، فيما يقف عناصر من حركة طالبان يعلنون الحكم ثم يباشرون التنفيذ أمام أنظار الجميع، هذا المشهد ليس مجرد عقوبة، بل هو وسيلة بث رعب تفرض صمتا عميقا على المجتمع وتجعل كل فرد يشعر بأنه معرض للعقاب في أي لحظة، وفق وكالة أنباء المرأة.
محاكمات بلا ضمانات
تستند طالبان في تنفيذ الجلد إلى أحكام تصدرها محاكم تابعة لها، غير أن هذه المحاكم تعمل خارج أي إطار قضائي معترف به وتفتقر إلى أبسط معايير العدالة، فغالبا ما تصدر الإدانة خلال جلسة تستغرق دقائق معدودة دون توفير محامٍ أو حق دفاع أو وجود أدلة كافية.
في حالات كثيرة تأتي الأحكام بناء على اعترافات انتزعت تحت الضغط أو بدافع الخوف، أو على خلفية شكاوى شخصية وعائلية بسيطة قد لا ترتقي حتى إلى مستوى جنحة في أي نظام قانوني معاصر.
وتشمل الأفعال التي قد تؤدي إلى الجلد التواصل بين نساء ورجال من غير المحارم، ومحاولات الفتيات الهروب من العنف الأسري، والخروج دون محرم، إضافة إلى شرب الكحول أو إقامة علاقات خارج إطار الزواج أو السرقة، كثير من هذه الأفعال لا تُعد جرائم وفق المعايير الدولية، ما يجعل العقوبة في نظر المنظمات الحقوقية أداة قمع وليست إجراء قانونيا.
النساء الأكثر عرضة للانتهاك
تتحمل النساء العبء الأكبر من هذه العقوبات، ففي مجتمع شديد الحساسية تجاه مكانة المرأة، يؤدي جلد النساء في الأماكن العامة إلى تبعات مضاعفة لا تقف عند الألم الجسدي.
نساء كثيرات روين لاحقا أنهن تعرضن للطرد من أسرهن بعد تنفيذ العقوبة، أو واجهن عزلة اجتماعية قاسية وسلسلة طويلة من اللوم والوصم.
الآثار النفسية لا تقل قسوة، فالكثيرات يعانين خوفا مزمنا، واضطرابات نوم، وتراجعا في الثقة بالنفس، إضافة إلى حالة صمت ثقيلة تمنعهن من طلب المساعدة أو الحديث عن معاناتهن، في ولاية غور مثلا، تحدثت عدد من الناجين عن شعور دائم بالترقب وكأن الجلد قد يصبح مصيرا متكررا في أي وقت.
صمت قسري وتقييد للإعلام
لم تتمكن المنظمات الحقوقية الدولية من توثيق كل الحالات، إذ يعيش كثير من هذه الوقائع في مناطق نائية تخضع بالكامل لسيطرة حركة طالبان، ويخشى السكان الإبلاغ، والصحفيون ممنوعون من الوصول، فيما يخضع الإعلام لرقابة مشددة تمنعه من كشف الانتهاكات، وقد وثقت الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش والعفو الدولية عشرات الحوادث، لكنها جميعا تؤكد أن الأعداد الحقيقية أعلى بكثير مما يظهر في التقارير.
من هذه الحالات ما جرى في ولايات باميان وغزني وتخار، حيث تعرضت نساء للجلد بسبب حديث قصير مع رجل غريب، أو بسبب الهروب من منزل يشهد عنفا داخليا، أو بمجرد الاشتباه بتواصل هاتفي مع شخص لا تربطهن به صلة قرابة.
استخدام سياسي للعقوبات الدينية
يرى عدد من العلماء والخبراء الدينيين أن تطبيق الحدود الشرعية في الإسلام يخضع لضوابط صارمة تشمل اشتراط وجود أدلة موثوقة وشهود عدول وإجراءات محكمة تضمن حق الدفاع، إضافة إلى عملية قضائية شفافة وكاملة. لكن هذه المعايير غائبة تماما عن نظام القضاء الذي تعتمد عليه طالبان، ما يحول العقوبة من حكم ديني مضبوط إلى أداة سياسية تستخدم لترسيخ النفوذ والسيطرة.
هذا الاستخدام السياسي للعقوبة يعزز شعورا عاما بأن الدولة تمارس الإذلال العلني بحق المواطنين لفرض هيبتها، وليس لتحقيق عدالة أو حماية مجتمع. وفي ظل غياب قضاء مستقل، ومع سيطرة الحركة على الشرطة والمحاكم والسجون، يفقد المواطن أي شعور بالأمان القانوني.
خشية عامة وتفكك اجتماعي
تسببت هذه الممارسات في توتير الحياة اليومية ورفع مستويات القلق في المجتمع، فمجرد شكوى بسيطة قد تؤدي إلى محاكمة عاجلة ثم جلد علني أمام الجيران والأقارب. يصف بعض السكان هذا الوضع بأنه زمن انعدام الطمأنينة حيث يعيش الأفراد تحت تهديد مستمر يطال كرامتهم وأجسادهم.
ومع تصاعد العقوبات ضد النساء في أفغانستان، يشعر كثيرون بأن المجتمع يتجه نحو مزيد من الانغلاق والتشدد، مما يحد من الحركة والتعليم والعمل، ويجعل النساء في موقع هش يضاعف المخاطر القانونية والاجتماعية والنفسية عليهن.
غياب المساءلة الدولية
ورغم إدانات واسعة من الأمم المتحدة ودول ومنظمات دولية، لم تتخذ الأسرة الدولية خطوات عملية فاعلة لإيقاف هذه الممارسات أو للضغط باتجاه اعتماد نظام قضائي مستقل. ومع استمرار هذا الفراغ القانوني، تبدو حياة المواطنين، خصوصا النساء، معرضة لمزيد من الانتهاكات التي تمس إنسانيتهم وكرامتهم.
حتى الآن، ورغم المواقف الحقوقية الصلبة، ما يزال الوضع على الأرض يزداد سوءا. فغياب المراقبة الدولية ومنع الصحفيين من تغطية ما يجري يجعل الانتهاكات تستمر بعيدا عن الأنظار وتتحول إلى واقع يومي راسخ.
تكشف ممارسة الجلد العلني في أفغانستان منذ عام 2021 عن أزمة حقوقية عميقة تتجاوز حدود العقاب الجسدي إلى مستوى أخطر يتمثل في سيادة العنف على حساب القانون، وتحويل المحاكم الشرعية إلى أدوات سياسية، وتكريس الخوف وسلب الكرامة الإنسانية، ومع استمرار غياب المحاكمات العادلة وانعدام الرقابة، يظل المواطن الأفغاني، وخاصة النساء، يعيش في دائرة مفتوحة من الرعب والظلم. ولا يبدو أن هذه الدائرة ستنتهي ما لم يتحرك المجتمع الدولي والمؤسسات المحلية لإنهاء هذه العقوبات القاسية وإرساء نظام يحمي حقوق الناس ويعيد إليهم إحساسهم بالأمان.
طبقت طالبان عقوبات الجلد العلني خلال حكمها الأول بين 1996 و2001، قبل أن تتوقف هذه الممارسات خلال فترة الحكومة الأفغانية السابقة التي دعمتها القوى الدولية بعد عام 2001، ومع عودة الحركة إلى السلطة في أغسطس 2021، استؤنفت العقوبات العلنية على نطاق واسع. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن طالبان نفذت عقوبات جسدية متنوعة أبرزها الجلد والجلد بالسوط والإعدام العلني، استنادًا إلى إجراءات قضائية غير معترف بها دوليًا، كما أن القوانين الأفغانية التي كانت معمولا بها قبل سقوط الحكومة السابقة كانت تحظر التعذيب والعقوبات اللاإنسانية، إلا أن هذه القوانين أُلغيت أو جرى تجاهلها بالكامل بعد سيطرة طالبان على الحكم.











